نهض في السادسة والنصف كعادته منذ سنين طويلة، بلا منبّه، منذ أصبحت مثانته أفضل مُنَبّه طبيعي يجبره على الاستيقاظ وزيارة الحمام أكثر من مرة. وقف أمام المرآة في الحمّام الذي يحاذي غرفته. غسّل وجهه وحلق ذقنه. أخرج طقم أسنانه من القدح المليء بالماء وأعاده إلى فمّه وثبّته فيه. أعاد نظاراته إلى وجهه. وفي طريقه من الحمام نحو المطبخ كي يعدّ الشاي، وقف أمام التقويم المعلق على جدار الممر كما كان يفعل كل صباح. وهي عادة قديمة لم يقلع عنها حتى بعد أن تقاعد وخلت أيامه من المواعيد وقلّت مشاغله وواجباته. فقد اعتاد أن يقف دائماً ليشطب اليوم الفائت بقلم الرصاص المعلّق بخيط من نفس المسمار الذي يثبّت التقويم على الجدار ويعلن، بذلك، بداية يوم جديد. نظر إلى صورة المصطبة الخالية التي جلست عليها، وعلى الأرض الحجرية تحتها، أوراق مصفرّة انتزعها الخريف من شجرة لا يظهر إلا جذعها. تحت الصورة، كان اليوم الباقي هو الأحد، آخر يوم من تشرين الأول من عام ٢٠١٠. كان قد كتب على المربع الصغير الخاص بذلك اليوم بقلم الرصاص “وفاة حِنّة” إشارة إلى اسم شقيقته التي فارقت الحياة قبل سبع سنوات في صباح مثل هذا، مع أنه لا يمكن أن ينسى التاريخ. كان قد مشى إلى الكنيسة قبل شهر وطلب من الكاهن تقديم قدّاس عن راحة نفسها في ذكرى وفاتها وتبرّع للكنيسة بمبلغ إضافي. لن يكون القدّاس في كنيسة الراهبات التي كانت بيتها الثاني والتي صلّت فيها كل صباح، لعقود طويلة، لأنها أغلقت أبوابها أمام المصلّين مؤخراً لأسباب أمنية، بل في كنيسة “أم الطاق” كما كانت تسمّى. الكنيسة التي تذهب إليها مها وزوجها كل أحد، لأنه سرياني. قال لنفسه إن حنّة لن تزعل لأن القداس سيكون في كنيسة السريان وليس في “كنيستنا” كما كانت تسمّي كنائس الكلدان. فالفرق بسيط جداً لا يتعدّى لغة القداس التي تتشابه ويمكن فهم الكثير من مفرداتها والإثنتان كاثوليكيتان. والأهم، برأي يوسف، هو أن كل الصلوات تصل إلى الله في نهاية الأمر، مهما كانت اللغة أو المذهب.
هاهي سبع سنوات قد مرّت بسرعة منذ ذلك الصباح، سنوات كانت حنّة ستتعجّب منها لو كانت على قيد الحياة إذ فاقت كل ما سبقها وفاقت حتى الشهور السبعة الأخيرة من حياتها بعد الحرب الأخيرة.
كانت دائماً تصحو قبله وتعد الشاي لهما. تشرب استكانَيْن مع فطورها البسيط: كسرة خبز وقليل من الجبنة، البيضاء أو الصفراء، إن توفّرت، و ملعقة من مربّى المشمش التي كانت تحبها وتصنعها هي بيدها. ثم تترك الشاي فوق كتلي الماء على نار هادئة جداً كي لا يبرد وليشربه هو عندما يستيقظ، ثم تذهب هي إلى الكنيسة مشياً. كان مشيها قد أصبح بطيئاً جدّاً في السنين الأخيرة واضطرّت إلى التأنّي والتوكّؤ على العكّاز. لكنها كانت ترفض أن توقظه ليوصلها بالسيارة وترفض أن تستمع إلى نصائحه لها بأن تذهب إلى الكنيسة مرّة واحدة فقط يوم الأحد بدلاً من الذهاب كل يوم. كانت عنيدة للغاية، خصوصاً عندما يتعلّق الأمر بطقوسها الدينية.
عندما دخل المطبخ ذلك الصباح لم تكن حنّة قد أعدّت الشاي. كان قوري الشاي مقلوباً في المشبك بجنب المغسلة كما كان في الليلة الماضية بعد أن شربا الشاي في المساء. قال لنفسه إنها ربّما تكون متوعكة. صبّ الماء في الكتلي ووضعه على العين اليمنى في الفرن بعد أن أشعل نارها بعود ثقاب. وضع ملعتقين كبيرتين من بثل الشاي في القوري ووضع قطرات ماء فوقها ثم غطاه ووضعه فوق الكتلي بانتظار أن يغلي الماء كي يصبّه على الشاي. خرج من المطبخ وذهب باتجاه غرفتها التي كانت في نهاية الممر، قبل الباب المؤدي إلى الحديقة الخلفيّة. كان بابها مغلقاً. ناداها وهو يطرق الباب ثلاث مرّات: “حِنّة، حِنّة، يا حِنّة.” لم تجب. أدار يد الباب المعدنية بهدوء وفتحه محاولاً ألا يصدر صوتاً فوجدها نائمة في سريرها. كانت الستائر مسدلة، لكن شمس الصباح كانت قد تسلّلت من أطراف الستائر ومن الفسح التي ظلّت بينها. تخطّى عتبة الغرفة التي قلما كان يدخلها بخطوة. كبس الزر الذي كان على الجدار إلى اليمين، لكن الضوء لم يشتعل. تذكّر بأنها قالت له بالأمس بأن المصباح احترق ولا بد من تغييره ووعدها بأن يفعل ذلك. تمتم موبّخاً نفسه على تأجيل ذلك وتعاجزه عن جلب الدرج من المخزن. فلا مفر من ألم ركبته حين يتسلق الدرج، وهو بهذا العمر، لتغيير المصباح. كان قد تعلل بينه وبين نفسه بأن الكهرباء مقطوعة معظم الوقت وهم يقتصدون في تشغيل المولّدة ويعتمدون على الشموع في الليل. لكن لا فائدة في تأجيل الموضوع. ناداها مرّة أخرى “ حِنّة! شبيكي؟ قومي! حنّة” خطا يميناً نحو الشبّاك وأزاح الستائر إلى الجانبين، فاقتحمت الشمس فضاء الغرفة بقوة. وضع يده اليمنى أمام عينيه ليحميهما من وهج الشمس. استدار واقترب من سريرها. كانت نائمة على جانبها الأيسر وقد غطّاها اللحاف حتى كتفيها. اقترب من حافة السرير اليسرى ونظر إليها عن كثب. كانت مغمضة العينين وخصلات من شعرها الأبيض، الذي ظل قوياً برغم السنين، تنام مشعثّة على الوسادة بالقرب من وجهها. يداها كانتا مشبوكتين بالقرب من زاوية الوسادة السفلى إلى يمين وجهها، تقبضان على مسبحة الصلاة ذات الحبّات الحمر الصغيرة التي لم تكن تفارق يدها والتي كانت تضبط إيقاع صلواتها وأدعيتها. كانت المسبحة تنتهي بصليب فضّي صغير كان ينام بالقرب من فمها. قال لنفسه بأنها لا بد أن تكون قد قبّلته قبل أن تنام. انحنى وهزّ كتفها برفق بيده اليمنى مردّداً “حنّة”. لم تتحرّك البتّة. وأحسّ بكتفها صلباً بعض الشيء. لاحظ شحوباً على خارطة وجهها المليء بالتجاعيد. ظل يكرّر بصوت خافت: “حنّة، حنّة” أمسك بيدها اليمنى ليجس نبضها فبدت كأنها تتشبث بأختها اليسرى وبالمسبحة. شعر ببرودة ملمسها وأحس بقلبه يسقط في حفرة. وأدرك عندها بأنها لن تستيقظ. طوّق معصمها بيده واضعاً طرف إصبعه على رسغها الأيمن، فلم تسمع سبّابته أي وقع لخطى الحياة.
كانت الحياة قد جمعت ما تبقّى من حاجياتها أثناء الليل وتركت جسد حنّة يسكنه الموت وحده بلا شريك. هاهو الله يحقق أمنيتها التي طالما ردّدتها لسنين، خصوصاً في ساعات الوجع والقرف: “أوف يا ربي! شوقت تاخذني وأخلّص وأرتاح؟” كانت دائماً تدعو للآخرين بطول العمر، لكنها تدعو لنفسها بقصره. “ييزي عاد، خلص!”
جلس على حافة السرير. أراد أن يحتضنها مرّة أخيرة، لكنه اكتفى بوضع باطن يده اليسرى على رأسها ومسّد شعرها الأشيب. لم يكن يلمسها أو يقبلها إلا مرة أو اثنتين في السنة في الأعياد. وآخر مرّة مسّد فيها شعرها كان لم يزل طفلاً وكانت هي قد ورثت بموت أمّهما عبء الاعتناء به هو وإخوته الصغار بالرغم من صغر سنها. كانت في الخامسة عشرة عندما أجبرت على التخلّي عن حلمها بأن تكون راهبة، وكرّست ما تبقّى من حياتها لكي تطعمهم وتسهر على راحتهم. وكرّست ما يتبقّى أثناء ذلك وبعد انتهاء واجباتها للتعبّد في البيت أو في الكنيسة. تركت يمناه يدها المتخشبة ليمسح دمعتين أو ثلاث تركتا عينيه واستقرّتا على خده وشاربه الأشيب. قبّل جبينها البارد وقال لها وكأنها لم تزل تسمعه: “الله يرحمكي حِنّة.”
في الصورة المعلقة على الجدار فوق سرير حنّة كانت مريم العذراء، الممتلئة نعمةً، تتوشح بالأزرق وهي تحتضن ثمرة بطنها. انبثق عمود النور الإلهي من قلب السماء فوقها وتحلّقت الملائكة حولها ترفرف بأجنحة صغيرة. وبالرغم من غبطتها بيسوع، كانت عيناها تنظران إلى حِنّة وأخيها بشيء من الحزن.
وظلّت دموعه تترقرق وهو يصلّي لروحها، كما صلّت له عمراً بأكمله “ أبانا الذي في السموات”. . . ثم أردفها بـ “السلام لكِ يا مريم. الممتلئة نعمة. الرب معك. مباركة أنت في النساء ومبارك ثمرة بطنك يسوع. يا مريم القديسة يا والدة الله. صلّي لأجلنا نحن الخطاة، الآن وفي ساعة موتنا، أمين.”
وهاهو الماضي يعود ليذكره بحنّة وكأنه كان يقوى على نسيانها أصلاً. ترك القلم الرصاص يسقط من يده. مشى نحو غرفتها التي كان قد قرّر أن تظل كما كانت. فباستثناء ملابسها التي طلب من إبنة أخته بعد انقضاء العزاء أن تجمعها من خزانة الملابس الصغيرة وأن تأخذها إلى الكنيسة ليوزعوها على الفقراء، بقي كل شيء كما كان عليه في حياتها.
فتح الباب وخطا خطوة إلي الداخل. كانت غرفتها مظلمة وباردة كالقبر. كبس على الزر الذي كان على الجدار إلى اليمين، فلم ينقشع الظلام. تذكّر بأن الكهرباء مقطوعة. وحتّي لو لم تكن مقطوعة، تذكّر بأنه لم يغيّر ذلك المصباح أبداً. بما أن نورها اختفى من الغرفة فقد قرّر ألا يغيّره أبداً. وحتى عندما جاءت النسوة ممّن تبقّى من العائلة في بغداد وبعض الجيران ليغسلن جسدها ويمشطن شعرها ويلبسنها ملابس نظيفة تليق بسفرتها الأخيرة إلى القبر، قال لهم بأن الشمس تكفي في النهار وبأن يوقدوا الشموع في الليل. لا بد أن مها هي التي أسدلت الستائر بعد أن نظّفت الغرفة لإنه كان يبقيها مفتوحة. قالت له بعد أن نظفتها أول مرة “كنّي روحها هوني بالقِبِّة.”
مشى نحو الشباك وأزاح الستائر كما فعل قبل سبع سنوات. طارت حمامة رمادية كانت تقف على الحافة الطابوقية خارج الشباك بعيداً نحو بيت الجيران. دخلت أشعة الشمس وغطت جزءاً من الأرض وثلثي السرير الذي كان مغطى بشرشف أبيض وضعه فوق اللحاف. خطا ثلاث خطوات إلى الشباك الثاني الذي يحاذي السرير وأزاح الستائر فامتلأت الغرفة بالصباح. استدار ووقف بجانب السرير. نظر إلى صورة العذراء المعلقة فوقه. إلى اليسار منها كانت هناك صورة لأخيهما، جميل، الذي هرب من العراق عام ١٩٦٩ بعد أن أعدموا صديقه بتهمة الماسونية وخافت زوجته اللبنانية من أن يلاقي هو نفس المصير، بالرغم من أنه لم يكن ماسونياً. فذهبا إلى لبنان وبقيا هناك وأنجبا ثلاثة أولاد وخمسة أحفاد حتّى الآن. عاشوا في سن الفيل، ثم انتقلوا إلى بگفيا ليعيشوا بالقرب من أهل زوجته، بعد أن دُمِّر بيتهم أثناء الحرب الأهلية. كان ما يزال في مقتبل شبابه في الصورة. وباستثناء صورة جميل، الذي كانت حنّة تحبه أكثر من بقية إخوتها، رغم إنكارها ذلك، فإن بقية الغرفة كانت مكرّسة للأيقونات ولتماثيل وتذكارات العذراء ويسوع الصغيرة التي كانت تهوى جمعها والتي اقتنت بعضها أثناء سفرتها الأخيرة إلى روما مع الكنيسة عام ١٩٨٩ بعد أن فتح السفر من جديد. حتى أنّه كان أحياناً يشاكسها ويقول لها بأن كل ما ينقص غرفتها لكي تكون كنيسة مصغّرة هو المذبح والبخّور. فكانت تقول له:
“أي، ومنو يقدّس؟ إنت؟"
حتى القدح الصغير الذي كان يوضع عند مدخل الكنيسة و يملأ بالماء المقدس كي يبلل المصلّون سبابتهم به ليرسموا علامة الصليب على وجوههم عندما تطأ أقدامهم أرض الكنيسة كانت قد وضعت نسخة منه بالقرب من الباب، تحت نقطة الكهرباء.
إلى يسار الباب وتحت قدح الماء بنصف متر جثمت “السنگر” القديمة، ماكنة الخياطة التي تعمل بمدوسة القدم والتي كانت قد كدحت عليها لسنين طوال كي تعيلهم أصرّت على الاحتفاظ بها رغم أنها لا تعمل ولم تستخدمها منذ عشرات السنين. كانت قد استغلّت حافاتها كمساحة إضافية تضع عليها التماثيل الصغيرة. إلى يسار “السنگر” في زاوية الغرفة كانت هناك خزانة الملابس الخشبية وبجانبها طاولة تواليت ومرآة كبيرة. وباستثناء فرشاة شعر متوسطة الحجم عليها كفشة شعر بيضاء وبعض الماشات بجانبها، كان بقية سطح الطاولة خاليا من كل ما له علاقة بجسدها. كان مكرّساً لروحها. فتكدست بعض كتب الصلاة التي كانت رفيقتها في أيامها وتبعثرت حولها تلك الصور الصغيرة التي كانت توزعها الكنيسة. بعضها بحجم بطاقات المعايدة أو أصغر، للعذراء لوحدها، أو مع المسيح، ومار يوسف و مريم المجدلية وبعض القديسين. كما كانت هناك بعض الصور التي تؤرخ لمناسبات مقدسة لأرواح أحبتها. لأولاد وبنات إخوتها وأخواتها أثناء طقوس التناول الأول أو العماد وقد وضعت صورهم مع صور القديسين والقديسات وكأنهم يحمونهم.
وتوسّط الطاولة صندوق صغير من الخشب يعرف بأنها اشترته من إيطاليا وكانت تضع فيه مسابح الصلاة المختلفة وصليبها “الحي” الذهبي الذي كانت تضعه حول رقبتها وتؤمن بأنّه يحوي قطعة صغيرة من صليب المسيح. إلى اليسار من طاولة التواليت كان الجدار مليئاً بصور رجالات الكنيسة. واحدة للبابا يوحنا بولص الثاني يرتدي ملابس البابا البيضاء ويبتسم. وتحتها صورة البطريرك بولص شيخو الثاني، الذي كان بطريرك الكلدان في العالم والذي كان مساوياً للبابا في المنزلة، لكن حنّة وضعت صورته تحت السابق. وتحتها صورة لعمانوئيل بيداويذ الذي انتخب بطريركاً بعد وفاة شيخو وقد كتب تحت صورته: غبطة عمانوئيل بيداويذ، المثلث الرحمة، بطريرك بابل على الكلدان في العالم.
وتحت صور البابا والبطاركة كانت صورة أصغر لها هي أمام الفاتيكان ترتدي معطفاً أسود ثقيلاً. كانت دائماً تستذكر حجّها هناك. أعجبتها روما كثيراً لكنّها كانت دائماً تتحسر على القدس التي زارتها عام ١٩٦٦ وكانت تظل تقول كلما دار نقاش حول فلسطين على التلفزيون أو في الجلسات: “أي شوقت ترجع حتى نقدر نروح لكنيسة القيامة؟”
بالإضافة إلى كل الذكريات والصور، كانت حنّة قد عادت من القدس بصليبين، واحد صغير موشوم على باطن ساعدها ونُقِشَ تحته “١٩٦٦”، سنة حجها. اختفى هذا الصليب الصغير معها تحت تراب القبر الذي تنام فيه. أمّا الآخر، وهو أكبر بكثير ومن خشب الزيتون، فمازال معلّقاً، لوحده، على الجدار الذي يواجه السرير.
فتح أحد الشبابيك ليسمح لنسمة هواء نقي بأن تدخل. وقرر أن يبقيه مفتوحاً بالرغم من برودة الجو التي تسللت مع الهواء المنعش. خطر في باله وهو يخرج من الغرفة ويغلق بابها، بأنّ روح حنّة قد تشتاق إلى غرفتها وتزورها اليوم. سيغلق الشبّاك العصر قبل أن يذهب إلى الكنيسة.
* مقطع من رواية.